فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثالث: أنه مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من {فئتين}؛ لأنه في الأصْل صفةٌ لها، تقديرُه: فئتين مُفْترِقَتَيْن في المُنَافِقِين، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها، انتصبَتْ حَالًا.
وفي {فئتين} وجْهَان:
أحدُهما: أنها حالٌ من الكافِ والميم في {لَكُم}، والعَامِلُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به {لَكُم}؛ ومثله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وقد تقدَّم أنَّ هذه الحَالُ لازمةٌ؛ لأن الكلامَ لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البَصْرِيِّين في كل ما جَاءَ من هذا التَّرْكِيب.
والثاني- وهو مذهب الكوفيين-: أنه نَصْبٌ على خَبَر «كان» مُضْمَرةً، والتقدير: ما لَكُم في المُنَافِقِين كنتم فئتين، وأجَازوا: «ما لك الشاتم» أي: ما لك كُنْتَ الشَّاتِمَ، والبَصْرِيُّون لا يُجِيزُون ذلك؛ لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف، ويدلُّ على كَوْنِهِ حالًا التزامُ مَجِيئه في هذا التَّركِيب نَكِرةً، وهذا كما قالُوا في «ضَرْبِي زَيْدًا قَائِمًا»: إنَّ «قائمًا» لا يجُوز نصبُه على خَبَر «كان» المُقَدَّرةِ، بل على الحَالِ؛ لالتزامِ تَنْكيره. وقد تقدَّم اشتِقَاقُ «الفِئَة» في البقرة.
قوله: {والله أَرْكَسَهُمْ} مبتدأ وخبر، وفيها وجهان:
أظهرهما: أنها حالٌ، إمَّا من المُنَافِقِين- وهو الظَّاهِرُ-، وإمَّا من المُخَاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنه أنكرَ عليهم اختلافهم في هؤلاء، والحالُ أنَّ الله قد ردَّهم إلى الكُفْر.
والثاني: أنها مُسْتَأنفةٌ أخبر تعالى عنهم بذلك. و{بما كسبوا} مُتَعَلِّقٌ بـ {أركسهم} والبَاءُ سَبَبِيَّة، أي: بسبب كَسْبِهِم، و«ما» مصدريَّةٌ أو بمعنى الَّذِي، والعائدُ مَحْذُوفٌ على الثَّانِي، لا على الأوَّلِ على الصَّحِيح.
والإركاس: الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس، قال عليه السلام في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها: «إنها ركس». وقال أمَيَّة بن أبِي الصَّلت: [البسيط]
فَأرْكِسُوا في جَحِيمِ النَّارِ إنَّهُمُ ** كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزَّورَا

أي: رُدُّوا، وقال الرَّاغِب: «الرِّكْس والنِّكْس: الرَّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ؛ لأن النِّكْسَ: ما جُعِل أعلاه أسْفَله، والرِّكْسَ: ما صَارَ رَجِيعًا بعد أن كَانَ طعامًا».
وقال النَّضْر بن شميل والكَسَائي: الرَّكْس والنِّكْس: قلب الشَّيْء على رَأسِه، أو رَدِّ أوَّلِهِ على آخِره، والمَرْكُوس والمنكُوسُ وَاحِدٌ.
وقيل: أرْكسه أوْبقَه، قال: [المتقارب]
بِشُؤْمِكَ أرْكَسْتَنِي فِي الخَنَا ** وأرْمَيْتَنِي بِضُرُوبٍ الْعَنَا

وقيل: الإركاس: الإضلال، ومنه: [المتقارب]
وأرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ** وصَيَّرتَنِي مَثَلًا لِلْعِدَى

وقيل: هو التنكيسُ، ومنه: [الرمل]
رُكِّسُوا في فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ** كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ

وارتكَس فُلانٌ في أمْر كَانَ، أي: نَجَا مِنْهُ والرُّوكُوسِيَّةُ: قوْمٌ بين النَّصَارى والصَّابِئِين، والرَّاكِس: الثَّور وسْط البَيْدَر والثيران حوالَيه وقت الدياس.
ويقال: أرْكس ورَكَّس بالتَّشْدِيد ورَكَّس بالتَّخْفِيف: ثلاث لُغَات بمعنى واحد، وارتكَس هو، أي: رجع.
وقرأ عبد الله: «ركسهم» ثلاثيًا، وقرئ «ركَّسهم- ركَّسوا» بالتشديد فيهما.
وقال أبو البقاء: وفيه لُغَةٌ أخرى: ركسه الله من غير همز ولا تشديد، ولا أعلم أحَدًا قرأ به.
قلت: قد تقدَّم أن عبد الله قَرَأ {والله ركسهم} من غير همز ولا تشديد ونقل ابن الخطيب أنَّها قراءة أبيِّ أيْضًا وكلام أبي البَقَاءِ مُخْلِّصٌ؛ فإنه إنما ادَّعى عَدَمَ العلمِ بأنَّها قِرَاءةٌ، لا عدمَ القراءة بها.
قال الرَّاغب: إلا أن «أركسه» أبلغُ من «ركسه»؛ كما أنَّ أسْفَلَه أبلغُ من سُفْلَه، وفيه نظر. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (89):

قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر بضلالهم وثباتهم عليه، أعلم بأعراقهم فيه فقال: {ودّوا} أي أحبوا وتمنوا تمنيًا واسعًا {لو تكفرون} أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائمًا {كما كفروا} ولما لم يكن بين ودهم لكفرهم وكونهم مساوين لهم تلازم، عطف على الفعل المودود- ولم يسبب- قوله: {فتكونون} أي وودوا أن يتسبب عن ذلك ويتعقبه أن تكونوا أنتم وهم {سواء} أي في الضلال، أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائمًا، فأنتم ترجون في زمان الرفق بهم هدايتهم وهم يودون فيه كفركم وضلالكم، فقد تباعدتم في المذاهب وتباينتم في المقاصد.
ولما أخبر بهذه الودادة، سبب عنه أمرهم بالبراءة منهم حتى يصلحوا، بيانًا لأن قولهم في الإيمان لا يقبل ما لم يصدقوه بفعل فقال: {فلا تتخذوا} أي أيها المؤمنون {منهم أولياء} أي أقرباء منكم {حتى يهاجروا} أي يوقعوا المهاجرة {في سبيل الله} أي يهجروا من خالفهم في ذات من لا شبه له، ويتسببوا في هجرانه لهم إن كانوا في دار الحرب فبتركها، وإن كانوا عندكم فبترك موادة الكفرة والموافقة لهم في أقوالهم وأفعالهم وإن كانوا أقرب أقربائهم، وهجرتهم في جميع ذلك بمواصلتكم في جميع أقوالكم وأفعالكم، والهجرة العامة هي ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه.
ولما نهى عن موالاتهم وغيّي النهي بالهجرة، سبب عنه قوله: {فإن تولوا} أي عن الهجرة المذكورة {فخذوهم} أي اقهروهم بالأسر وغيره {واقتلوهم حيث وجدتموهم} أي في حل أو حرم.
ولما كانوا في هذه الحالة لا يوالون المؤمنين إلا تكلفًا قال: {ولا تتخذوا} أي تتكلفوا أن تأخذوا {منهم وليًا} أي من تفعلون معه فعل المقارب المصافي {ولا نصيرًا} على أحد من أعدائكم، بل جانبوهم مجانبة كلية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

إنه تعالى لما قال قبل هذه الآية: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} [النساء: 88] وكان ذلك استفهاما على سبيل الإنكار قرر ذلك الاستبعاد بأن قال: إنهم بلغوا في الكفر إلى أنهم يتمنون أن تصيروا أيها المسلمون كفارا، فلما بلغوا في تعصبهم في الكفر إلى هذا الحد فكيف تطمعون في إيمانهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم، و{لَوْ} مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا؛ وقوله تعالى: {كَمَا كَفَرُواْ} نعت لمصدر محذوف، و(ما) مصدرية أي كفرًا مثل كفرهم، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، ولا دلالة في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالًا لا دخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلًا على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى الله تعالى باعتبار الخلق، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم. اهـ.

.قال ابن عطية:

الضمير في {ودوا} عائد على المنافقين، وهذا كشف من الله لخبث معتقدهم، وتحذير للمؤمنين منهم. والمعنى تمنوا كفركم، وهي غاية المصائب بكم، وهذا الود منهم يحتمل أن يكون عن حسد منهم لهم على ما يرون للمؤمنين من ظهور في الدنيا، فتجري الآية مع ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم ويحتمل أمر المنافقين أن يكون أنهم رأوا المؤمنين على غير شيء فودوا رجوعهم إلى عبادة الأصنام، والأول أظهر. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {فَتَكُونُونَ سَوَاء} رفع بالنسق على {تَكْفُرُونِ} والمعنى: ودّوا لو تكونون، والفاء عاطفة ولا يجوز أن يجعل ذلك جواب التمني، ولو أراد ذلك على تأويل إذا كفروا استووا لكان نصبا، ومثله قوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ولو قيل: {فيدهنوا} على الجواب لكان ذلك جائزا في الاعراب، ومثله: {وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 102] ومعنى قوله: {فَتَكُونُونَ سَوَاء} أي في الكفر، والمراد فتكونون أنتم وهم سواء الا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لوضوح المعنى بسبب تقدم ذكرهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أي تمنّوا أن تكونوا كَهُم في الكفر والنفاق شَرَعٌ سواء، فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حتى يُهَاجِرُواْ}؛ كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] والهجرة أنواع: منها الهجرة إلى المدينة لنُصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه واجبة أوّل الإسلام حتى قال: «لا هجرة بعد الفتح» وكذلك هجرة المنافقين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة.
وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه» وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن.
وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبًا لهم فلا يُكَلَّمون ولا يخالَطون حتى يتوبوا؛ كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيْه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الأظهر أنّ ضمير «ودوّا» عائد إلى المنافقين في قوله: {فمالكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88].
فضح الله هذا الفريق فأعلَم المسلمين بأنّهم مضمرون الكفر، وأنّهم يحاولون رَدّ من يستطيعون ردّه من المسلمين إلى الكفر.
وعليه فقوله: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله} إن حمل على ظاهر المهاجرة لا يناسب إلاّ ما تقدّم في سبب النزول عن مجاهد وابن عباس، ولا يناسب ما في الصحيح عن زيد بن ثابت، فتعيّن تأويل المهاجرة بالجهاد في سبيل الله، فالله نهى المسلمين عن ولايتهم إلى أن يخرجوا في سبيل الله في غزوة تقع بعد نزول الآية لأنّ غزوة أُحد، التي انخزل عنها عبد الله بن أبَيّ وأصحابه، قد مضت قبل نزول هذه السورة.
وما أبلغ التعبيرَ في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله: {أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله} [النساء: 88]، وفي جانب محاولة المنافقين بالودّ، لأنّ الإرادة ينشأ عنها الفعل، فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأنّ الإيمان قريب من فطرة الناس، والمنافقون يعلمون أنّ المؤمنين لا يرتدّون عن دينهم، ويرون منهم محبّتهم إيّاه، فلم يكن طلبهم تكفيرَ المؤمنين إلاّ تمنيّا، فعبّر عنه بالودّ المجرّد.
وجملة {فتكونون سواء} تفيد تأكيد مضمون قوله: {بما كفروا} قصد منها تحذير المسلمين من الوقوع في حِبالة المنافقين. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء} الفاء فصيحة، وجمع {أَوْلِيَاء} مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين وليًا أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم. اهـ.